بسم الله الرحمن الرحيم
عاش أوين جيب في مزرعة بجنوب نورفولك مساحتها مائة فدان، و تتكون من بستان تفاح و بركة مياه للإوز و البط ، و حقل غزير الأعشاب يناسب قطيعا ممتازا من الأبقار. و هناك قن للدجاج على الجانب الآخر من كومة وحل و لكنه مظلل بأشجار سنديان قديمة. و كانت تصنع الزبدة في غرفة ألبان باردة. و عندما توفي والدا أوين توجب عليه أن يبيع المزرعة. و ما تبقى له ، بعد دفع الضرائب و كل الديون ، عبارة عن بيت صغير كانت تسكن فيه فيما مضى جدته ، و قطعة أرض بطول نصف فدان ، و هي تقودك في نهايتها إلى طريق هادئ.
قام المالك الجديد للمزرعة بالتخلص من أشجار التفاح و حول غرفة الألبان إلى كوخ استجمام و استراحة. و أدرك أوين أنه من المهم له ، بميراث متواضع من هذا النوع ، أن يضع خطة فورية للاستثمار. فالتأخير لن يصل به إلى أية نتيجة. كان يبلغ من العمر خمسين عاما ، و يعيش وحيدا، و لا يوجد معه رفيق غير كلاب سود نوع لابرادور ( 1 ) و مورفي و تايرانت ( 2 ) ، و هؤلاء من أوحى له بالخطة.
وضع تصميما لمأوى للكلاب. فقد سمع أنه بمقدوره أن يجني النقود من أناس يرغبون بمن يعتني بحيواناتهم الأليفة ، و ذلك للقيام برحلة إلى إسبانيا أو فلوريدا - أو للتخلي عنها فقط ، نقطة نهاية السطر. إن ذلك جزءا من طبيعة البشر : الرغبة بالتخلص من أشياء كنت تعتقد أنك قادر على التعايش معها ، ثم وجدت أن هذا غير ممكن.
و كل ما توجب على أوين أن يبني المأوى بحكمة ، و أن يحرص أن يكون متينا و مريحا ، و بذلك يمكن أن يضع عليه لافتة تقول إنه " متميز ". و قبل فترة طويلة من إنجاز العمل اختار اسما لهذا التصميم : " مؤسسة إيواء الكلاب المتميزة لصاحبها جيب ".
قام بتشييد المأوى بصفين ، وباتجاه هابط نحو الطريق ، مع الاحتفاظ بمساحة خضراء للتريض في الطرف الغربي. و لكل منصة تدبر أمر مخبأ مصنوع من الخشب مع فراش من القش ، و هذا ذكره بقن الدجاج القديم. و ترك منطقة مفتوحة في الأمام ، حيث يمكن للكلاب أن تتمشى - كما يفعل السجناء في باحة المعتقل - و لكنه وضع سياجا من السلاسل المترابطة و المتينة. و كانت الأرضية من الإسمنت ( و هو الحل العملي الوحيد ) ، و لكنه وضع تحت الإسمنت شبكة من أنابيب التدفئة و التي ترتبط بسخان البيت الذي يعمل باحتراق الوقود. و سمع أوين نفسه يقول لزبائن المستقبل " حيواناتكم المدللة لن تعاني في هذه المؤسسة ". ثم قرر أيضا أن يفتح أبواب مأواه لكل الراغبين به.
و لكن بعد أن فشل مالكو المزرعة في منع هذه الخطة من التنفيذ بقرار من مكتب المحافظة المحلي ، حاولوا أن يقطع لهم وعدا بعدم قبول الكلاب الخطيرة ، غير أنه رفض ذلك. فقد أدرك أن إيواء كلاب الثور المصارعة ( 3 ) المعروفة بمقاطعة ستافورد و كلاب الديبرمان و الروتويلر سوف ترفع من قيمة التأمين الصحي. كان أوين جيب يحتفظ ببعض العاطفة للحيوانات . و لم يزعجه أن لبعضها طبيعة متوحشة قليلا. و اعتقد أنه قد يتأقلم مع الذئاب ، و حتى الضباع - بشرط عدم وجود سرب كامل منها : أكثر من قدرتك على أن تحب.
ثم انتشر الخبر في الحي " مأوى جيب المتميز " هو أفضل و أوفر مكان لإيواء الكلاب. كان الطعام و المأوى مناسبا ، و الأرض تقاوم الشتاء ، و تحصل الحيوانات على رياضة جيدة مرتين في الأسبوع - و هذا مع الأخذ بعين الاعتبار السلالة و الحجم و الجنس. و أهم من كل ذلك ، لو كنت بعيدا لفترة أطول من الاتفاق ، سوف يكون أوين " جاهزا لبعض الترتيبات".
و حالا جاء من يحجز في مأوى إيوين بإقبال شديد حتى أنه فكر باقتطاع أرض من منطقة التريض ، ليوسع المأوى بإضافة أقفاص أخرى أكثر من ثلاثين ، و هو العدد المتوفر حاليا.
و كان يزعجه أن يرفض حيوانا واحدا ، كما لو أن هذا القرار سوف يعرضه إلى اللعنة بعذاب فوق طاقته ، أو ربما الموت. إن الناس قساة القلوب : و هو يعلم ذلك. لو وقف الحيوان بينهم و بين رغباتهم التي لا تنضب ، لن يخجلوا من التخلي عنه ، أو التخلص منه في باحة للنفايات ، بعيدا عن البيت ، " حيث يعتني بنفسه " - مهما كانت نتيجة ذلك.
و وضع إوين مخططا لعشرة وحدات جديدة. و اكترى سمكريا ليجد طريقة للتخلص من التسريب تحت شبكة التسخين في الأرض و طلب خزان بترول آخر. و أصبحت الظروف جاهزة للعمل ، و لكن في أول يوم من العام الجديد ، و كان المأوى مزحما بالحيوانات ، هبت جبهة هواء قطبي باتجاه الجنوب ، قادمة من إسكندنافيا و استقرت فوق إيست أنغليا. و هطلت الثلوج و تراكمت فوق الأرض المتجلدة و تكدست فوق السقوف الخشبية للمأوى.
و هنا وقف أوين خلف نافذته الأمامية لينظر.
خرجت الكلاب من الأقفاص و شمت الهواء المتجلد و رفعت رؤوسها نحو عاصفة الثلج المندوف ، في محاولة لتعض ذرات الثلج و هي تهطل. و مع أن الهبوب كان يغطي الممر الذي يقود إلى الطريق ، اغتبط أوين و هو يشاهد أنه حيثما هطل الثلج فوق المنصات الحجرية ، كان يذوب بسرعة. فأنابيب التدفئة كانت تؤدي عملها.
و أدرك أوين أن الكلاب ستشعر بالبرد في مثل هذه الظروف - و لا سيما كلبا المصارعة اللذان أسكنهما منذ عيد الميلاد ، بسبب الجلد الناعم الذي يبدو لأوين ، تقريبا ، حساسا مثل بشرة جسم البشر - غير أنهما تمكنا من المرور بالأزمة. فقد ضاعف من كمية طعامهما ، و وضع مزقا من الصحف مع القش ، و غطاهما بالمعاطف مثلما فعل بالكلبة داكسهوند ( 4 ) الصغيرة و المكتنزة التي تدعى شيري.
هطلت الثلوج طوال اليوم ، و توقفت ليلا و ظهرت النجوم و طبقات الصقيع المتراكم ، و شرعت بالهطول مجددا في الصباح اللاحق. و شعر أوين و هو يمزق أوراق الصحف ، أن الثلوج المتواصلة لن تتوقف ، و ستواصل بالهطول حتى تصل إلى قلب بداية العام الجديد ، و تسد أي شريان يقود إلى الربيع.
و لكنه هو و الكلاب سيتحملون هذه المشقة معا ، مثلما تحملتها قطعان الأبقار خلال طفولته ، و مثلما تحملتها أشجار التفاح ، التي لم تتحرك مع الرياح ، بسبب الأثقال البيضاء التي تحملها.
و بعد يومين ، استيقظ أوين في السابعة ، تحت الظلام ، على صوت نباح الكلاب. كانت غرفة نومه متجلدة. فتح الستائر و نظر إلى أكوام الثلج التي بلغ ارتفاعها مقدار قدم على حافة النافذة. و بحث عن مشعاع الحرارة تحت النافذة ليشعر بالدفء و لكنه كان باردا.
ارتدى أوين صدارة صياد سمك و عباءة و ارتدى ممشاة منزلية و سار باتجاه المطبخ ، و كانت لديه فكرة عما سيجد هناك : كان السخان لا يعمل.
كان السخان قديما ، و من الصعب أن تشعله. ركع أوين و فك علبة صندوق الشعالة ، و شم رائحة النفط ، و دهش لسرعة برودة الرأس الذي كان يحترق مع لهيب قوي في منتصف الليل.
كانت يداه ترتعشان. و أقلقه صوت نباح الكلاب. كان ذيل مورفي و تايرانت يتأرجحان بتفاؤل ، و كانت حول أوين أشكال رابضة و كثيرة ، لكنه لم يبعدها عنه ، و احتفظ بها بقربه ليشعر بالطمأنينة.
حاول أن يفكر بشكل مرتب. ثم تكلم مع لابرادور بصوت مرتفع : " لا يجدي إشعال السخان في حال تراكم الثلوج على المدخنة. أليس كذلك يا رفيق ؟".
لحس مورفي وجه أوين. و ضرب تايرانت بيت السخان بذيله. أضاف يقول : " سينطفئ السخان مباشرة لو أن هناك ما يسد طريق العادم. ماذا نفعل إذا يا مورفي؟. يا تايرانت ؟. سأحضر السلم ، على ما أظن ، و أنظف عمود المدخنة . أليس كذلك؟. و سأعود و أحاول مع الطريقة القديمة لإشعال النار. فلنبتهل كي ننجح".
ارتدى أوين الجوارب الثقيلة و حذاء قويا و المعطف الزراعي الدافئ الذي لديه و فتح الباب الخلفي و تبعه كل من مورفي و تايرانت للمساعدة في هذا العمل ، و هما يقفزان فوق الثلوج من أجل الوصول إلى البقعة المناسبة من الأرض.
وقف أوين هامدا لا يتحرك عند عتبة الباب. حمل السلم ، و نظف الثلوج من المدخنة : لم يزعجه شيء من هذه الواجبات. ما أقلقه المنظر الذي كان بانتظاره في مأوى الكلاب. استنشق الهواء في الخارج و استطاع أن يشعر أن الحرارة كانت ناقص 5 أو 6 درجات.
تستسلم الحيوانات التي ليس لها فراء بسرعة للأمراض إذا كان البرد شديدا. إنها تنبح الآن ، و لكن إن لم يشعل النار بالسخان ، سوف تستسلم للصمت سريعا.
إنه في الخارج الآن ، و هو ينظر إلى الخلف حيث بصمات أقدامه فوق الثلوج ، بدءا من خزان النفط ، من الصعب عليه أن يصدق ما يراه.
كان يحمل إناء من الغذاء العالي بنسبة البروتين. و يقف قرب المنصة. لذلك خرجت بعض الكلاب من المخبأ و حاولت أن تتقدم عبر الثلوج المتراكمة نحوه. رمى بعض الطعام من وراء الأسلاك. و لم يجد أثرا لكلبي المصارعة.
رغب بشخص يقف معه للمساعدة. و فكر بقنوط بالأيام التي كان فيها أبواه على قيد الحياة ، إنهما أصوات تؤازر و تواسي و تقدم المشورة. في هذه الليلة ، و هي أبرد ليالي هذا الشتاء ، و بسبب الحصار الحالي ، جاء شخص مجهول و ارتكب بحقه جريمة.
ابتهل لو أن هذا مجرد خيال ، و لكنه حقيقة. بصمت تحت غطاء الثلوج ، جاء مجرمون و فتحوا باب خزان الوقود و أفرغوه حتى آخر قطرة . حتى آخر قطرة.
و هو يعتقد أن هؤلاء المجرمين هم جيرانه ، العائلة التي تمشي على أرضه الحبيبة حيث عاش أيام طفولته و شبابه ، و لكنهم شعروا تجاهه و تجاه كلابه بالمقت و رغبوا أن يصل مشواره هذا إلى لا شيء. لم يكن متأكدا أنهم من فعل ذلك ، طبعا ، و هو يعتقد أنه لن يتوصل إلى حقيقة هذا البغض العميق ، و لكن الشبهات ستتفاعل في قلبه. و سيعتقد أن الأشخاص الذين كسبوا ممتلكاته ينوون له الخراب. و يجب أن يقاوهم.
اتصل بكل موزعي الوقود المذكورين في دفتر الهاتف. و معظمهم لم يرد لأنه أسبوع بداية العام الجديد ، و من أجاب ذكر له إن الطلب على الوقود كبير و لذلك لن يتمكن من خدمته إلا بعد تسعة أو عشر أيام. تمشى أوين ببطء على طول المأوى. كان أحد كلاب المصارعة ميتا و فكه ملتف حول سلاسل البوابة ، كما لو أنه يحاول أن يقطع الحاجز بأنيابه ليهرب. أما داسكهوند و شيري فقد كانا بلا أنفاس و بشكل كومة تغطيها الثلوج. ارتعش أوين و هو ينظر إلى الجثمان الصغير المكتنز. و من بيته جاء صوت جرس الهاتف الأرضي : لا شك أن أصحاب الكلاب يتصلون من محطات و مطارات مكبلة بالجليد ، ليطلبوا منه المحافظة على كلابهم حتى يذوب الثلج.
و لكن لن يكون هناك ذوبان للثلوج. هذه هي حقيقة مشاعر أوين. سيسجن هو و الحيوانات لوقت طويل في عالم متجمد.
حاول أن يتماسك أمام رعشاته و أن يفكر بذهن مستقر. و كان يعلم أنه لن يجد خيارا ، و عليه أن ينقل الكلاب إلى البيت. ثمانية و عشرون كلبا سيحاول أن يفصل بينهم ، كما يفعل في ساعة التريض المعتادة ، و هكذا يمنع التزاوج المستمر أو الصراع فيما بينهم. و مع ذلك سوف تدب الفوضى بسبب طبيعة الحيوانات ، و هي في حالة قلق و حصار .
و إن نباحها و عواءها و حركاتها سوف تحتل كل لحظات ساعة صحوه و تجعل النوم مستحيلا. و سوف يتكوم مورفي و تايرانت في الزاوية بدافع الخوف ، أو يختبئان في الخزانة ، و هي أرضهما المشهورة في حال وجود الأغراب ، و كل ما يمتلكه أوين سيتمزق و يتسخ و ينتهي أمره.
و لكن لا توجد طريقة أخرى للمحافظة على الكلاب. لا توجد طريقة أخرى. شعر بالشلل ، كما لو أنه فجأة سقط صريع المرض أو الشيخوخة. ثم ابتعد عن الملجأ و سار نحو البيت. و تابع نباح و أنين الكلاب و هي تنظر له حين كان يبتعد.
كان بحاجة لدقيقة ليمسك زمام أمره. و تذكر أنه لا زال لديه الكهرباء. ذهب ليحضّر كوبا من الشاي ، شيئا يتدفأ به ، على الأقل ، قبل أن يواجه ما يتوجب عليه مواجهته في الأيام القادمة.
وضع الماء في الغلاية الكهربائية ، و وقف ينتظر صوت غليانها الأليف الذي سوف يغطي على الأصوات الأخرى القادمة من الخارج ، و التي يبدو الآن أنها قادمة من نقطة بعيدة من البلاد ، من مكان بربري ، حيث لا يوجد نظام أو عاطفة ، إنه نوع من البلاد التي لا يرغب أن يقطن فيها أبدا.
مع تحياتى